(الطفله )
عباس شاب طيب ، ومرح، وهو زميلى فى العمل ، برغم انه حديث التعيين، الا انه اكتسب صداقات تفوق صداقاتى التى اكتسبتها لعشرين عام مضت " منذ تعيينى فى الهيئة ، لم يكن عباس زميلنا فى نفس المكتب الذى اعمل به ، ولا نفس الاداره ، فقد كان مكتبى بقسم الشئون الماليه ، ومكتبه بقسم الموارد البشرية ، بالطابق الثالث من العمارة نفسها، الا انه كان يحب ان يتناول افطاره معنا ، حيث أحبه زملائى ، وصاروا اصدقاءا له ، وكانوا يمدحون فيه صفاته الطيبه وشهامته وكرمه ومرؤته ويتشرفون بصداقته ، وسألونى ذات مره عن مكان سكنه ، فأصابنى الخجل ، لجهلى التام بمكان سكنه ، فعابوا على ذلك لمحبته الشديده لى ومرافقته لى باستمرار ووقوفه بجانبى فى كل صغيرة وفى كل كبيرة ، وعندما خلوت به ذات مرة ، سألته بإعتذار خفيف عن مكان سكنه ، فضحك ، وقال لى ؛ ( اخيرا ؟؟ كنت انتظر هذا السؤال منذ زمن بعيد ، وفى كل لحظه تنتابنى الوساوس بان اتخلى عن صداقتك ، ولكن كنت اقول لنفسى يبدو انه رجل لا يحب الصداقات الممتده ولا الدائمه ، يا صاحبى انا اسكن نهاية الثورات ) قلت متلعثما ومتعذرا : ( صدقنى انا و الزملاء فكرنا فى زيارتك بالبيت ، وقضاء يوم حافل معك ملىء بالبهجة والمرح ) فابتسم مرحبا وقال : ( حددوا اى يوم تحبون فيه زيارتى انا سأكون فى انتظاركم باذن الله تعالى ) اجبته ؛ ( دعنى اشاور الزملاء ثم اوافيك بمقترحهم واختيارهم لليوم ) قال : ( حسنا ، يسرنى ذلك).
وفى صباح يوم من ايام العطلات الاسبوعيه ، كنا امام منزل عباس صديقنا ، وقد حملنا معنا ما حملنا من الماكولات والطيبات والفواكه ، ولكن عباس بطبيعة كرمه لامنا على ذلك لوما خفيفا بضحكته المرحه و كلامه الطيب ( الطعام عندنا متوفر لا بحد من يأكله) ، ثم تقدمنا بخطوات الى داخل داره مرحبا بترحيب اهل الريف ( أهلا وسهلا اهلا بكم ) ، تسبقه فرحة عجز عن اخفاءها ثم ادخلنا الى صالون كبير بنى من الآجر ، وبه نافذتين تفتحان على شارع كبير اصطفت على جانبي ذلك الشارع شجرتا (نيم ) كبيرتين وشجرة ضخمه من اللالوب ، ويمر من خلال تينك النافذتين هواء بارد ، شد انتباه الزملاء ، وتعحبوا لذلك الجو الصحو وللرطوبه التى تتخلله وتصاحبه كأننا فى فصل الربيع ، وبينما عباس مضى فى بعض شئون المطبخ ، ليكرم وفادتنا ، فقد تمدد الزملاء على الاسره البارده وسرعان ما غطوا فى نوم عميق ، بسبب المسافة البعيده و الرحلة الطويله التى مشتها العربه فى ساعتين او ثلاثه.
ظللت وحدى مستيقظا ، احدق احيانا فى الشارع عبر النافذتين ، واحيانا فى سقف الصالون المعروش من جريد النخيل واخشاب الدوم .
فجأة احسست بخطوات طفلة فى التاسعه من عمرها ، تدخل الى الصالون فى توجس ثم اتت نحوى ببسمه رائعه ومدت الى يدها الغضه الصغيرة، تحيينى بابتسامة ملائكيه لم ار مثلها قط ، فضممتها نحو صدرى بشوق كأنها ابنتى التى اعرفها منذ ميلادها ، وقبلت خديها بحنان لم اعهده فى نفسى ، وسألتها : ( هل انتى شقيقة عباس )؟ فصمتت ، ثم هزت رأسها علامة النفى ، كانت ملامحها جميله جدا وقد تدلت من رأسها الصغير ضفيرتين طويلتين ، وكانت تمسك احدى الضفيرتين باصبعين رقيقين ، ثم اتكأت بمرفقها على فخذى ، وهى تتمايل كغصن صغير ، فسالتنى ببراءة : ( انت صاحب عباس أليس كذلك )؟ قلت ( بلى )، ثم سألتنى : ( وما اسمك يا عمى )؟ وقبل ان اجيب على سؤالها الاخير ، اعقبتنى بسؤال اخر ( وهؤلاء النائمون أهم اصحابه ايضا ؟ ) اجبتها ( نعم هم اصحابى واصحاب عباس ، وزملائى فى العمل ، انا اسمى خالد نصر وانت ؟) رفعت الى عينين ساحرتين كأنهما لؤلؤتين فى قاع النهر ، وهى لا تزال تتكىء بمرفقها على فخذى : ( انا اسمى زينب ) ثم سألتنى بتعتعه : (هل عندك عربة ) قلت : ( لا ، العربة يملكها زميلى ) وتمتمت : ( العربات سيئة ) وقبل ان تكتمل دهشتى سالتنى ، مره اخرى : ( هل جئتم من مكان بعيد )؟ قلت لها: ( نعم فنحن نسكن متفرقين ) سالتنى مرة اخرى : ( هل تعرف مدينة الازهرى )؟ قلت لها ( نعم وكيف لا ) سألت بسرعة : ( هل تعرف مجدى ابن شندى ؟) و قبل ان اجيبها على سؤالها أفلتت يدى ، كأنها رأت شيئا اعجبها وخرجت لا تلوى على شىء ، فابتسمت للبهجة البريئة التى ادخلتها على نفسى ، ولصدق حديثها وروحها الطيبه ،
والتفت الى اصدقائى وهم يغطون فى نومة عميفه ، ورحت اوقظهم بمرح: ( انهضوا ، استيقظوا ، هل اتيتم لرحلة نوم )؟ ورميت عليهم الوسائد ، وفتحوا اعينهم واتهمونى بالحاسد وهم يقهقهون ، ويضحكون .
فى تلك اللحظه دخل عباس ، بمائده طعام حوت كل ماهو طيب ، ورحنا نلتهم الطعام ونمدح صانعه باعجاب ، فصمت عباس هنيهة ثم قال باسما : ( انا من صنعته ) ، فاندهش الاصدقاء ، وسأله احدهم : ( واين اهلك واخواتك )
قال عباس وهو يضحك : ( انا من ود مدنى ، اهلى كلهم يسكنون هناك ، ولى اخت واحده تسكن الخرطوم)
قلت عابثا : ( وهل تركوا لك شقيقتك زينب لترعاها وحدك )؟
توقف عباس عن مضغ الطعام، وتحجرت عيناه ينظر الى مندهشا ، ثم احسسنا بان طعاما توقف فى حلقه ، فناوله احد الزملاء كوبا من الماء ، شريه عباس بلهفة وهو لا زال بحدق بى ، ثم سالنى بذات الدهشه : ( كيف تعرف زينب ؟ ام انك خمنت هذا الاسم)
قلت باستغراب : (زينب شقيقتك الصغيرة تلك التى خرجت من عندى قبل عشره دقائق ) واشرت نحو باب الصالون
فجحظت عينا عباس، ثم نهض من مقعده كمن لدغه ثعبان وهو يردد: ( خرجت من عندك ، خرجت من عندك )؟ ثم بهمس : ( زينب ليست شقيقتى ) هنا توقف الاصدقاء عن الاكل وبدأت اعينهم تدور مع الحوار الذى دار بينى وبين عباس وقد جحظت عيونهم هو يقول ، ( زينب بنت اختى ميتة منذ اربع سنوات )
وجعلت احكى لعباس كيف دخلت و كل كلمه قالتها
وصمت عباس ثم تكلم مفزوعا ( انا خالها ، سكنوا مدينة الازهرى ، يشتغل ابوها سائق حافلة ، كان يحبها حبا جما ، وكانت هى تنتظره كل يوم لتتعلق بكتفيه ويهديها الحلوى ، وذات يوم جاء الأب مرهقا ونام لساعتين ، وخرج قبل ان تلاحظ زينب خروجه ، وعندما ادار محرك العربة وتحرك بها لم يدر ان ابنته كانت تحت لساتك العربه تريد مفاجأته ، فماتت دهسا بين يديه ). فهمست بصوت مسموع : ( قالت ان العربات سبئة )
وهنا سالت عباس ، وبدنى كله يرتعش : ( هل تريد ان تقول ان الفتاة التى اتكأت بمرفقها على فخذى هى طيف لزينب )؟
اجاب عباس ( زينب توفت منذ اربعه سنوات يا خالد )
قلت مستنكرا: ( لا لالا ، اذن من جاءتنى هى ابنة الجيران واسمها تطابق مع زينب ابنة اختك)
قال : ( ليس لنا جار له ابنه اسمها زينب ) ثم استطرد يسالنى : ( صف لى زينب التى اتتك يا خالد )
فجعلت اصف له وجهها وملابسها
فصرخ وقال : ( يكفى يكفى والله انها هى بنفس تلك الملابس وضفيرتيها الطويلتين)
سالت عباس : ( و هل والدها اسمه مجدى ابن شندى)؟
جحظت عينا عباس للمرة الثانيه واجاب محوقلا ( نعم انها هى وهذا اسم والدها زوج اختى المكلوم) ثم استطرد : ( ولكن كيف جاءت اليك دون الناس ودون اقربائها )
بدا جسدى يرتعش واصابنى رعبا
وانا اقول لعباس : ( لا بل جاءت اليك انت لان هذا بيتك ، يبدو انك احببتها اكثر من والديهاا)
اجاب عباس ( نعم نعم والله كنت امشى اليها لازورها مرات كثيرا واجلب لها الهدايا )
وراينا دمعتان تنزلان على خد عباس
فواساه الاصدقاء ، ثم خرجنا كلنا الى الشارع ، نبحث عن اثر لزينب تلك الطفله الجميله ، ولا اظن انها ستفارق خيالى مهما كان ، ولن انسى زينب ما حييت .
د. خالد نصر مالك
تعليقات
إرسال تعليق